السلطة الرابعة – علي محمود جديد
في ما بدا انتعاشاً ملحوظاً للأعمال المصرفيّة، وعودة إلى النشاطات وإغراءات الجذب المصرفي، بادر المصرف التجاري السوري من خلال فروعه الأربعة في مدينة اللاذقية إلى تقديم عرض مجاني للمتعاملين معه للقيام بنزهة شاطئية تنتهي بالتغلغل بين شوارع المدينة بحثاً عن صرّافٍ يعمل .. !
أحد المتعاملين مع المصرف، السيد أحمد عجيب، كان يريد أن يقبض لوالدته راتبها التقاعدي، روى لنا وقائع هذه الجولة العجيبة التي بدأت عند الساعة الخامسة مساء من جانب باب المرفأ في حي الرمل الشمالي حيث يقبع الصرّاف الأول المعطّل، اطمأنّ أحمد على وضع ذلك الصرّاف بأنه خارج الخدمة واتجه جنوباً على الخط البحري من أمام دائرة امتحانات اللاذقية واتحاد عمال المحافظة وصولاً إلى دوّار القدسي لينعطف يساراً نحو الشرق من أمام ثانوية يوسف العظمة باتجاه القصر العدلي، فهناك صرّاف آخر، وصل أحمد إليه واطمأنّ على وضعه أيضاً بأنه مثل أخيه الذي على باب المرفأ .. خارج الخدمة.
عاد أحمد إلى الخط البحري واتجه جنوباً على الكورنيش، كان الهواء منعشاً، ومنظر البحر بمراكبه وسفنه مُفرحٌ للقلب، فثمة مظاهر حيوية جميلة، إلى أن وصل بالقرب من المحافظة التي يبدو أنها تولي اهتماماً كبيراً للمتعاملين مع المصرف التجاري، كإدارات الفروع وحتى كالإدارة العامة للتجاري السوري التي تفسح المجال أمام زبائن المصرف – من شدة الاهتمام بهم – للقيام بمثل هذه النزهة المسائية المجانية، والتي يحرصون فيها على سلامة البيئة، فهي سيرٌ على الأقدام دون استخدام أي محركات إمعاناً في الحفاظ على الهدوء والهواء النظيف والمزيد من الرومانسية أيضاً.
قطع أحمد الأوتوستراد البحري واتجه شرقاً من جانب المحافظة ومركز خدمة المواطن ليصل إلى زاوية الحديقة الخلفية لمبنى المحافظة، حيث يرتكز هنالك صرافان .. هما موجودان فعلاً ولكن يبدو أنهما قد استرسلا للنوم باكراً.
عاد أحمد إلى الخط البحري ليتابع نحو الجنوب أيضاً حتى وصل إلى القرب من سور حديقة البطرني، إذ يقوم هناك صرّاف جميل لا يعمل، فصعد من جانب المتحف الوطني مروراً من أمام فرع مصرف سورية المركزي الذي لا يكترث ولا تعنيه مثل هذه النزهات ولا يقف عند أسبابها رغم أنه ( على أساس .. ) أبو المصارف، ولكنه عندما يشاء يعملُ أباً، وعندما لا يشاء لا يعمل .. ! نعم .. إنه أبٌ عند اللزوم .. وحسب.
تابع أحمد سيره إذن من أمام المركزي باتجاه الفرعين الأول والثاني للتجاري السوري في شارع 8 آذار، وهناك التقى ببعض المتنزّهين الآخرين الذين يجولون على الصرافات، وكانوا يقفون أمام شاشات الصرافات المعتمة بحالة انتظار، فسألهم أحمد : ماذا تنتظرون .. ؟ دعونا نكمّل نزهتنا .. فأوضحوا له بأنهم بانتظار الكهرباء حتى تأتي كي تفتح الصرّافات شاشاتها، فقال لهم مستغرباً : أيّ كهرباء تنتظرون ..؟! ها هي هنا .. الكهرباء موجودة ..! قال أحدهم : بالفعل .. الكهرباء موجودة فلماذا لا تعمل الصرّافات ..؟!! قال آخر : يبدو أنّ هناك مشكلة بالشبكة .. سأنتظر إلى أن تأتي ..
صعد أحمد من هناك باتجاه ساحة أوغاريت، فإلى جوارها الفرع رقم 3 للتجاري السوري، والذي كان نائماً هو وصرّافاته التي على مدخله.
عاد أدراجه من بعض الشوارع الخلفية باتجاه الخط البحري، ومن جوار نقابة المهندسين اتجه جنوباً أمام باب إدارة المرفأ، ومبنى الجمارك والموانئ، وصولاً إلى مدخل المرفأ المخصص للشاحنات، بجانب سيريتل، وهناك يوجد صراف آخر للتجاري خارج الخدمة أيضاً، فصعد مرة أخرى إلى شارع 8 آذار ليتجه شمالاً إلى أمام الفرع 4 للتجاري السوري الذي يضع صرافاته في بهوهِ داخل الباب الرئيسي المغلق ..! توقّف قليلاً بلا جدوى فالنتيجة واحدة سواء كانت تعمل أو لا تعمل ما دامت هي في الداخل ومقفول عليها .. فتابع سيره نحو الفرعين الأول والثاني للتجاري السوري مرّة أخرى، فكان الشباب ما يزالون بانتظار الشبكة .. !
قرّر بعدها الاتجاه إلى ساحة الشيخ ضاهر حيث يتخفّى صرّاف للتجاري السوري هناك بجوار محطة الوقود، استكشفه أحمد .. وكان خارج الخدمة أيضاً.
كان على أحمد أن يعود إلى البيت بعد هذه النزهة الجميلة التي استغرقت معه حتى الآن نحو ثلاث ساعات .. وكلها مجانية، ها هي الساعة الثامنة مساءً، وكي لا تقلق أمه عليه اتصل معها مُدّعياً وجود ازدحام على الصرافات، فعل ذلك وهو يترصّد في ذهنه صرّافاً في حي القلعة، فمشى نحو فرع الشرطة العسكرية، ومن هناك انعطف نحو اليمين بشارع جانبي أوصله إلى جوار مبنى مصرف التسليف الشعبي، حيث يقع ذلك الصرّاف المرصود.
وصل إليه أحمد، وكانت الفرحة عارمة .. فالصرّاف يعمل .. ويدعو عبر شاشته إلى إدخال البطاقة .. وسرعان ما أدخلها أحمد، فدعاهُ الصرّاف لإدخال الرقم السرّي، فأدخله أحمد أيضاً، طلبَ منه الصرّاف تحديد العملية المطلوبة، فحدّدها له ( سحب مبلغ ) طلب منه الصرّاف تحديد المبلغ .. فصدّقه أحمد وحدّد المبلغ .. وانتظر خروج المال، غير أن الصرّاف جَمَدَ تماماً ولم يقم بأي حركة، ولم يسمع أحمد أي صوت يُشير إلى أن الصراف يقوم بعملية عدّ الأموال .. مرّت دقيقة .. ودقيقتان.. والبطاقة في الدّاخل .. عاش أحمد خلالها على أعصابه، فماذا سيقول لأمه ..؟! لم يستطع أن يقبض الراتب .. وها قد فَقَدَ البطاقة .. مرّت دقيقة ثالثة دون جدوى .. ومن ثم دقيقة رابعة .. وفي الدقيقة الخامسة لفظَ الصرّاف البطاقة .. وأعلن عن نفسه عبر شاشته أنه خارج الخدمة .. !!
الحمد لله أن البطاقة عادت .. وليذهب الصراف إلى الجحيم سواء كان خارج الخدمة أم داخلها، كانت مشكلة عويصة ومُحرجة لو أنّ الصرّاف قد ابتلعها .. سحبها أحمد وعاد أدراجه باتجاه البيت في ( مشروع الزين ) وهو سعيدٌ جداً لأن الصرّاف كان رؤوفاً ولم يبتلعها.
في طريق العودة تذكّر أنّ هناك صرّافاً للتجاري السوري بجانب مديرية الزراعة، فاتجه إليه ليجدهُ بطبيعة الحال نائماً خارج الخدمة، وقال في نفسه : صرتُ قريباً من القصر العدلي وسأتجه إليه مرة ثانية فلعلّ صرّافه قد غيّر رأيه وصار واستفاق ليعمل .. فذهب إلى هناك وكان الصراف كما هو .. جامداً بلا عمل.. فلم يُغيّر رأيه .. !
بعد ذلك عاد أحمد إلى البيت مُتعباً منهكاً وكان قد قضى أربع ساعات سعيدة في هذه النزهة الرائعة والمجانية، التي أيقنَ من خلالها أن المصرف التجاري السوري مصرفٌ رائع .. بإدارته .. وفروعه .. وصرّافاته.
الأنكى من ذلك أنّ إدارة المصرف التجاري السوري أعلنت بالأمس وبطريقة شبيهة بالابتهاج أنّ المصرف قد أطلق خدماتٍ جديدة حيث أتمّ ربط مفوترين جدداً بالمصرف وصار بإمكانهم دفع فواتير المياه والكهرباء من خلال هواتفهم المحمولة، ويبدو من خلال الصرافات أيضاً، فقد أكد المصرف أنّ هذه الخدمات تمكّن المتعاملين من خدمة الصرّاف الأقرب إليك، وذلك لمعرفة عناوين الصرافات الأقرب .. وفي الحقيقة لا داعي لهذه الخدمة .. فها هي الصرافات كأنها كلها أمامنا .. نوم عميق .. وخارج الخدمة .. والله صحيح اللي استحوا ماتوا .. يا تجاري سوري .. !