عبد الحليم سعود
رغم حاجتنا الضرورية والملحة لكبح جماح الفساد وتعطيل نشاطات حُماته وضرب مافياته الفاقدة للوطنية والقيم الأخلاقية ــ محاربة الفساد أهم بكثير من توفير بعض السلع الضرورية على البطاقة الذكية ومن ثم حرمان الناس منها لأسباب تتعلق بالفساد نفسه ــ لأن الأضرار والأخطار الجسيمة التي يلحقها ببنية الدولة والمجتمع تجعل من الصعب جداً تجاوز مرحلة الحرب وتداعياتها السياسية والاقتصادية والمعيشية التي أرهقت كاهل الناس والدولة في السنوات الأخيرة، وما لم نتحلَّ بالشجاعة والجرأة والإرادة الكافية، كمؤسسات ونخب وأفراد، لمواجهة هذه الظاهرة المزمنة والتغلب عليها، ستظل المشكلات والأزمات المرتبطة بها تتفاقم إلى ما لانهاية بحيث تفرّغ أي انتصار عسكري أو سياسي من محتواه وتفقده قيمته.
نلاحظ مع بداية كل دور تشريعي جديد لمجلس الشعب وتشكيل حكومة جديدة ارتفاع حمى الوعود والأصوات المطالبة بمكافحة الفساد، بحيث يتخمنا بعض المسؤولين بنظرياتهم الخنفشارية الحالمة في هذا المجال، ولكن سرعان ما تتبخر الوعود وتتكسر النظريات على صخرة “صمود” الفساد وخبث مرتكبيه وحماته والمستفيدين منه، وكأنهم تلقوا كل “لقاحاتهم” الضرورية ضده وتحصنوا جيدا إزاء المس بهم ومكتسباتهم المتزايدة.
ولعل الملاحظة الأكثر لفتاً للنظر هو أن المسؤولين الأكثر فساداً هم الأكثر تنظيراً و” رقعاً ” للخطابات على المنابر والشاشات، لنكتشف بعد إعفاء هذا المسؤول أو ذاك أنه ترك لنا ملفاً ضخماً من الفساد والاختلاسات المالية، متيحا لنا مادة غنية للتسلية على مواقع التواصل الاجتماعي، دون أن تطاله يد المحاسبة بل ربما تولى منصبا شرفيا لكي يسد الشعب بوزه ، ما دفع الكثيرين لاستخدام المثل القائل “فالج لا تعالج” للتعبير عن سخطهم ويأسهم من إمكانية الخروج من هذا الوضع البائس.
ولا نشك بأن الكثيرين – إن لم نقل الجميع – باتوا مدركين خطورة المرحلة التي نمر بها، حيث تقترب شريحة واسعة من الشعب من حافة المجاعة والفقر المدقع بسبب ارتفاع الأسعار وضعف الرواتب والأجور، ولا خلاص أو خروج من هذه المرحلة الصعبة إلا بجهود استثنائية قوامها عمل دؤوب وصادق ومخلص وشجاع من قبل الجميع مسؤولين ومواطنين في مختلف المجالات، وأي تراخ أو تهاون أو استهتار أو تأجيل في مكافحة الفساد المستشري سيكلفنا كثيراً وسيضعف معركتنا في مواجهة الأعداء الخارجيين المتربصين بنا، وسيساهم بتقوية شوكة أعداء الإصلاح ممن نطلق عليهم “دواعش الداخل”..!
وما دمنا نخصص جوائز بملايين الليرات لمتصلين على برامج تلفزيونية سخيفة لا تقدم ولا تؤخر ونهدر المليارات على فعاليات كثيرة لا قيمة لها، فما المانع من تخصيص جوائز نقدية قيّمة لكل من يساعد أو ينجح في الكشف عن قضية فساد موثقة ومثبتة في وزارته أو مؤسسته ــ وبعض الفساد واضح كالنهار لا يحتاج إلى دليل ــ شرط أن تمنح الدولة حمايتها الكاملة لكل من يدلي بمعلومة أو يقدم وثيقة، وعندها سيبادر الكثير من الشرفاء للانخراط بقوة في هذا المشروع، لأن نتائجه الطيبة ستنعكس إيجاباً عليهم وعلى الوطن وستساهم في تقصير عمر الفساد وأهله.
وبما أننا قد أنجزنا الدور التشريعي – ولا اريد الخوض ببعض الروايات المخيبة والمحبطة – فمن الضروري تشكيل حكومة جديدة بمواصفات مختلفة “تكنوقراط” من خارج الأحزاب، ليكون المطلوب منها خطة متكاملة مؤطرة زمنياً لمحاربة الفساد داخل كل وزارة، بعد أن يقدم كل وزير بيانات تفصيلية شفافة عن ممتلكاته وأرصدته، وكل ستة أشهر يعرض الوزير ما أنجزه ويقدم أرقامه وبياناته ليصار إلى تقييمها من قبل جهات مختصة شريفة ونظيفة، فإذا كان أداؤه موفقاً يُمدد له، وإذا فشل في مهمته يتم إعفاؤه ومحاسبته، فالوطن مليء بالكفاءات الشريفة التي تستشعر الخطر وتريد أن تساهم بخطط الإنقاذ، ومن الضروري إعطاؤها الفرصة الحقيقية إلى جانب الصلاحية الكاملة في اختيار كوادرهها المناسبة في كل وزارة، وليس مقبولاً تجريب بعض من فاحت روائح فسادهم تحت أي ظرف، لأن المرحلة صعبة جداً ومصيرية وتحتاج إلى شرفاء حقيقيين لا منافقين ومصفقين.
ثمة من لم يفقد الأمل بعد في إحداث خرق حقيقي في هذا الملف ومن الضروري إعطاؤه جرعة تفاؤل حقيقية.. لأن حالة اليأس التي وصلها أغلب الناس مخيفة جدا ؟!