عبد الحليم سعود
لا تخلو الحياة من بعض المقارنات المؤلمة التي تجلب التنغيص والنكد، ورغم أني لا أشجع عليها ولا أرغبها، ومع ذلك أقع فيها بكل بساطة، بسبب المفارقات الفظيعة التي أراها وأعيشها كل يوم، دون أن يكون لدي قدرة على تجاهلها..!
فعلى المستوى الشخصي ما زلت دائم المقارنة بين الحياة التي عشتها في طفولتي أنا وأخوتي وعددنا تسعة ـ بعيون الشيطان ـ على معاش وحيد من الفئة الخامسة أو السادسة دون نقّ أو شكوى، وبين الحياة التي أعيشها اليوم مع أسرتي الصغيرة ونحن نتقاضى معاشين من الفئة الأولى ــ بعيون التجار ــ وفي نفس الوقت نعجز عن إكمال أسبوع دون خضات وديون ونقّ وشكوى.. ربما لأني شخص مسرف واهتم كثيراً بملذاتي الشخصية..؟!
ولكيلا يُفسّر كلامي بأنه توسل أو تسول للحكومة كي ترتكب جريمة بحجم زيادة المعاشات والأجور والرواتب، أطمئن من يهمه الامر بأن أي زيادة محتملة لهذه الكائنات الضعيفة ـ مهما كانت ـ لن تفيد ما لم تأخذ بعين الاعتبار كل التطورات التي طرأت على الاسعار لأن أي زيادة كلاسيكية سيعقبها سلسلة من فانتازيا ارتفاع الأسعار بحيث تأكل الأخضر واليابس والدبلان”1″..!
فقياساً ببيانات سابقة للمكتب المركزي للإحصاء ــ الغائب عن السمع تماماً هذه الايام ــ نحتاج لأكثر من عشر محاولات جريئة لزيادة الأجور كي يعود المواطن السوري “القنوع” إلى نفس المستوى الذي كان عليه قبل الحرب، لأن الجشع الذي يتحكم بمعيشتنا وبضمائر تجارنا، بات أخطر من كورونا على حياة أبناء ما يسمى الطبقة الوسطى الذين ينتقلون من حفرة إلى أخرى ولا أحد يهتم لهم، في الوقت الذي صعد فيه أبناء الحفر والشوارع وأصحاب السوابق والفاسدون والمهربون والمرتشون والمضاربون على سلم الغنى والثراء الفاحش في غفلة من الزمن والقانون..؟!
وبعيدا عن الاستطراد والفزلكة والفلسفة والعلوم(2) والرياضيات(3) والفيزياء (4) واللغة الانجليزية (5) واللغة العربية (6) …إلخ، سأعقد مقارنة بسيطة على الماشي لتبيان الفارق بين اليوم والأمس القريب..
كان والدي ـ حفظه الله ـ متفائلا بالمستقبل بالرغم من ظروفه الصعبة وله نظرية غريبة في الحياة دفعته لإنجاب تسعة أولاد، (كل ولد بيجي بتجي رزقتو معو) أما أنا فمتشائم مع خوف دائم من المستقبل ونظريتي (كل ولد بيجي رح يعمل أزمة وانفجار سكاني لأن أهله عاجزون عن شراء حليب وحفاضات).!!
تربينا سابقا على الخبزة والزيتونة (على رأي الصبوحة) والزعتر والزيت من دون جبنة، أما اليوم فنحن عاجزون عن شراء هذه السلع البسيطة والضرورية بسبب الغلاء، فيما هناك من يتفنن بشراء أغلى وأغرب الأطعمة ويرمي في قمامته يوميا من الفضلات الزائدة ما يكفي عائلات كاملة..!
درسنا سابقا على ضوء الكاز والشمعة والقمر حيث لا كهرباء ولا مياه فيجة ولا من يحزنون، وطرقاتنا كانت موحلة وعرة بلا مواصلات، في حين يحتاج ابناء هذه الأيام للكهرباء والتكييف والتكسي والجوال الذكي والنت والكمبيوتر والواتس آب والفيسبوك واليوتيوب والتويتر..إلخ..!!
كان اهالينا يستخدمون معنا سياسة العصا الغليظة بدون جزرة ليدفعونا للأمام، أما نحن فمضطرون لتنفيذ بنود اتفاقية حقوق الطفل إرضاء للمنظمات الدولية، مع فريز وكرز ومنغا وموز وأناناس وبوظة وباقي الفواكه والمرطبات.. إلخ.
عاش والدي زاهدا في الحياة وأقنعني أن الفقر قضاء وقدر لا يمكن العبث بهما أو معها وحذرني من الحسد والغيرة ولم يعقد أي مقارنة بينه وبين أي مسؤول حكومي أو صاحب سلطة “يلهط” الملايين دون حسيب أو رقيب، في حين أعيش أنا ويركبني ستون عفريت كل يوم بسبب المفارقات الفلكية التي أراها، ويضيع صوابي حين أعقد مقارنة بسيطة بين مواطن عادي من زمرتي ذاق الأمرين قبل أن يتعلم ويجد فرصة عمل ويبني بيتا ويكوّن أسرة صغيرة وينجب أطفالا وليس في جيبه شروى نقير، وبين ابن مسؤول أو تاجر ـ لم تفقس عنه البيضة ـ يركب الكاديلاك ( 7 ) والبورش ( 8 ) والأودي (9) والمرسيدس (10) والرولز رايس (١١) والجاكوار (12) واللامبرغيني (13) وفي رصيده ملايين اليوروات (14) والدولارات (15) ولديه الشركات والعقارات ويبرم الصفقات والعقود، مولود ـ كما يقال ـ وفي فمه ملعقة من ذهب يريد أن يأكل بها كل شيء حتى البشر ولا مانع لديه أن يبيع البلد ويهاجر للعيش في مضارب الحجة أنجيلا والشيخة ايفانكا إذا أمكن..؟!
هوامش:
- الدبلان هو أحد أحياء حمص.
(2)(3)(4)(5)(6) مواد في منهاج البكالوريا تكلف الأهالي أرقاما فلكية بسبب الدروس الخصوصية.
(7)(8)(9) (10)(11)(12)(13) هي ماركات سيارات ينتجها الكفار في أوروبا..!
(14) (15) هي عملات غربية ملعونة يحبها تجارنا ويتعاملون بها ولكن أنا وأمثالي محظورون من التعامل بها دعما لليرة السورية العزيزة..!