جديد 4E

يا ويح قلبي من عطره

الدكتورة : أماني محمد ناصر

في طريق العودة إلى دمشق.. كان رقم مقعدي في “البولمان” كما العادة (9)..

وهذا ما أطلبه إن كنت لوحدي وإن رافقني أحد أطلب رقم (7،8)..

صعدتُ البولمان واتجهتُ إلى مقعدي، فوجدتُ رجلا ملامحه عادية يجلس مكاني.. فقلتُ له. بحدّة:

_ لو تكرمت، هذه بطاقتي وهذا رقم مقعدي.. ومددتُ سبابتي كما تمدها مدرّسة اللغة الفرنسية في وجه طلبتها، ثم تابعتُ حديثي له قائلة:

_ وأنت تجلس مكاني..

سمعتني صبية تجلس في المقعد المجاور رقم 8، وكانت تجلس جانب النافذة وقالت لي :

_ إن أحببتِ تعالي اجلسي جانبي هنا..

رمقتها بنظرة طويلة قبل أن يمر بذهني شريط الأحاديث التي قد تفتحها معي، “عن عملي، وعن مكان إقامتي، ولماذا أنا في جبلة، ومن لدي من أهلي في جبلة، وإن كنت متزوجة أو عازبة، وإذا كنت متزوجة فكم ولد لدي، وإن كنت عازبة فلماذا لم أتزوج حتى الآن، وبعدها تطلب رقم جوالي” .. ثم قلتُ لها لأتهرب من كل هذه الأحاديث وأنا أرمقها للمرة الثانية بنظرة متكبرة متعجرفة متعالية وساخرة:

_ شكرا لكِ، لقد حجزت الرقم المفرد (السنغل) وهذا مكاني.. وأحب أن أجلس جانب النافذة لا على طرفها..

فتجاهلت نظراتي لتحفظ ماء وجهها وقالت لي:

_ كما تريدين..

ثم غيرت مكانها وجلست على الطرف في المكان الذي أرادتني أن أجلس فيه..

فقام الرجل الذي كان قد جلس مكاني وانتقل إلى مقعد آخر. وأنا جلستُ في المقعد الذي حجزته..

فجأة، يصعد إلى (البولمان) رجل في العقد الخامس من عمره أو أكثر، قدّه يا قدّ المياس، عيونه يا عيون المها، وجهه يا نقاء السماء، أناقته يا أناقة عارض أزياء خبير، وعطره؟ يا ويح قلبي من عطره..

وأخذ يتطلع إلى أرقام المقاعد.. صرت أدعو في قلبي أن يأتي إلي ويقول لي هذا مقعدي..

وفعلا وقف جانب مقعدي، فأخذتُ نفساً عميقاً ثم حبستُ أنفاسي من رائحة عطره، ثم نظر إلى رقم المقعد وابتسم لي، فقلت في قلبي (تقبر قلبي ما أحلى هالطلة وهالابتسامة، ولك وكمان سنغل متلي وما في بإيدك محبس؟ )..

هز لي برأسه مبتسماً كأنه يسمعني ثم التفت إلى المقعد المجاور رقم 8 ودار حديث بينه وبين الصبية التي كانت ستجلسني جانبها، لم أسمع منه إلا:

_ ولا يهمك، سأجلس خلفك في المقعد رقم 10..

وكل الطريق وهما يتحادثان، ويتضاحكان.. وبين لحظة ولحظة ترمقني الصبية بنظرة متعجرفة متكبرة متعالية وساخرة.. وأنا أتجاهل نظراتها لأحفظ ماء وجهي…

سألها “عن عملها، وعن مكان إقامتها، وإن كانت عازبة.. ولماذا هي في جبلة، ومن لديها من أهلها في جبلة، ثم طلب منها رقم جوالها وأعطاها رقم جواله” ..

وأنا…. لم أنل منه إلا ابتسامة يتيمة، ولم أنل من الرحلة إلا بومة أفكاري ورقم (9) السنغل الذي يشبهني.. وتساؤلات اعتقدتها أنها ستكون من صبية حشرية، فكانت من عريس الهنا المنتظر إليها..

تبا لبومة أفكاري

من سلسلة:

 “يوميات مسافرة”